إفشاء الأسرار الزوجية .. أسرار مقدسة تتناقلها الألسن وتغفل عن عواقبها العقول .. الجزء الأول

أسرار مقدسة  تتناقلها الألسن و تغفل عن عواقبها العقول


للحياة الزوجية حرمة أقرتها الشرائع السماوية و العقول السوية و الأعراف البشرية؛ لما تحمل من الخصوصيات المتبادلة بين الرجل و المرأة، و قد بين  القرآن الكريم في أكثر من موضع أن الله خلق الرجل سنداً للمرأة و خلق المرأة سكناً للرجل والعكس بالعكس، و لكن كثيراً من الأزواج في مجتمعاتنا المسلمة لا يدركون حرمة الحياة الزوجية، ولا يعطونها حقها، مما يعرض هذا الرباط الوثيق إلى التفكك، و لا أدل على ذلك انتشار ظاهرة نشر الأسرار الزوجية في أوساط الأزواج رجالاً و نساءأً، أمام من يتسلى بها أو من يستغلها و يوظفها بما يريد، فقد أصبحت تُفشى للعام و الخاص و بسبب و بدون سبب، و أصبحت حديثاً ممتعاً في الجلسات الحوارية دون التفكير بعواقب هذه العادة السيئة التي قد تؤدي إلى الطلاق أحياناً، فما حكم الشرع في إفشاء الأسرار الزوجية و ما الأسباب و الدوافع وراء ذلك و ما هي الأبعاد و الآثار المترتبة عليها، هذا ما سنعرضه في تحقيقنا.

قابلنا رنا الفرا لتحدثنا عن تعاملها مع أسرارها الزوجية فقالت:"أتعامل مع أسرار حياتي الزوجية بالطي و الكتمان، و لا أسمح لأحد معرفة ما يدور بيننا لا أهلي و لا حتى صديقاتي لأنها أمور خاصة جداًّ، و يعلم الله كم من المشاكل وقعت و كم من المصائب حلت و كم من الزيجات انفصلت بسبب هذه الأحاديث و الأخبار التي تدور في فلك فراش الزوجية المصون من العزيز الجبار،  تساءلت باستنكار:" أيليق بالمسلمة العاقلة التي عرفت عظم الوقت و أنه أثمن من إضاعته في مثل هذه الأحاديث الوضيعة التي لا تصدر إلا عن الفارغين و الفارغات أن تفعل ذلك؟".

و في سؤالنا لعبير بعلوشة 33 عاماً عن تعليقها عمن يتحدثن في مثل هذه المواضيع و يفشين أسرارهن الزوجية من باب المفخرة فقالت باستياء:"أي فخر هذا الذي يكون بكشف السوءات؟ وقد قيل أنها سميت السوءة سوءة؛ لأنه يسوء الإنسان كشفها، و المرأة العاقلة تأبى كشف سوءتها فطرة وعقلاً مع ما جاء في الشرع من تأكيد ذلك، فكيف يسوغ إبداؤها بالحديث عنها، و كأن السامع ينظر إليها؟".

أسرار مقدسة

هذا ما أكد عليه د. صبحي اليازجي حينما التقيناه ليعرفنا على حكم الشرع في قضية إفشاء الأسرار الزوجية فقال:"الزواج علاقة مقدسة بين الأزواج، و هو ميثاق غليظ وطده الله سبحانه و تعالى بينهم فقال تعالى:" و أخذنا منكم ميثاقاً غليظأً"، و القرآن الكريم صور مدى العلاقة فقال تعالى:"هُنًّ لباس لكم و أنتم لباسٌ لهن"، فاللباس يحمي الإنسان كذلك يستر عورته، و كذلك الزوجين كلُّ منهما سِترٌ للآخر، و يستر ما به من عيوب و يحفظه من الفساد، خاصة ما يتعلق بالمعاشرة الزوجية أو الأمور الداخلية التي تخص الزوجين.

واستدرك د. اليازجي قائلاً:"أذكر هنا أبو حامد الغزالي رحمه الله يذكر قصة عن أحد الصحابة أنه طلّق زوجته فسأله البعض:"ما الذي يريبك فيها؟"، فسكت، فقالوا:"لماذا لم تتحدث؟"، فقال:"العاقل لا يهتك ستر امرأته"، فقالوا:"إنها تزوجت من آخر"، فقال:"مالي و لزوجة غيري"، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يحفظوا أنفسهم و يحفظوا الآخرين.

أما هنا فاختلف القرار باختلاف المبدأ، ل.ح 24 عاماً فتبدي برأيها قائلةً:" لا أجد حرجاً في الحديث عن أسراري الزوجية الخاصة خصوصاً لصديقتي، وهي كذلك تحدثني بما يحدث معها، فأحيانا أحتاج إلى استشارة ما،  فلمن ألجأ، فلا أجد غيرها، ولا أجد في ذلك ما يخدش الحياء؛ لأنني أتحدث في هذا الموضوع عندما أحتاج لمشورة ما وجميع صديقاتي يتحدثن به.    

أؤيد و لكن!

و شاركتنا ألفت أبو عاصي موظفة رأيها قائلة "أنا أؤيد أن تتحدث الزوجة عن أسرار زوجها"، ، و لكن في حالة واحدة فقط حينما تحدث مشكلة بين الزوجين و تصل لفجوة كبيرة قد يترتب عليها الطلاق، هنا لابد للزوجين من إشراك أهل العلم و الثقات من الأصدقاء لمحاولة الإصلاح بينهما مصداقاً لقوله تعالى:"و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله، و حكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان حليماً خبيرا"، و لكن من الطبيعي أن لا تنقل الزوجة كل كبيرة و صغيرة سواء لأهلها او لأهله؛ حتى لا يصبح حياتهما كالبيت الذي لا سقف له.        

سألنا د.اليازجي عن حكم الشرع في ذلك فقال:"إذا أردنا التعرف على حكم الشرع فلابد من معرفة أنواع الأسرار الزوجية لنتعرف على أحكامها، القسم الأول أن تكون هذه الأسرار فيما يتعلق بأمور الاستمتاع بين الزوجين ,ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع، وهذا الحديث فيه نوعين، الأول : إذا كان الحديث بلا حاجة فلا يجوز الكلام فيه، وقد مثل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزوجين اللذين يتحدثان عن أسرار الفراش كمثل شيطان وشيطانة تلاقيا في طريق ماء فجامعها بمرأى من الناس" , وعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرجال والنساء قعود عنده فقال :"لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله , ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها " فارم القوم – يعنى سكتوا ولم يجيبوا – فقلت : أي والله يا رسول الله , إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون . قال : فلا تفعلوا فإنما ذلك مثلا الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون ". ، فهذا نهي صريح عن كشف أسرار الفراش".

وفي لقائنا هذا أخذنا منحى آخر لموضوعنا فإذا وُجِد لديك ما يعتبره زوجك من أسرار بيته، لكن كتمانه مفسدة عليك وعليه، و البوح به لأصحاب المشورة مصلحة لك، فماذا تختاري؟ هذا ما ستحدنا به م.ع 32 عاماً قائلة:"كان زوجي يتأخر يومياً لساعات متأخرة من الليل، و لا أعرف أين يذهب، و كلما سألته عن تأخيره تحجّج بحجج واهية لها أول و ليس لها آخر، وردّه الأوحد "تأخرت في الشغل"، فهو يعمل ميكانيكي، و كان يأتي الكثير من أصدقائه يسألون عنه، ولا أعرف أين هو، فقررت إخبار أهله بذلك من كثرة المشاكل التي تحدث إزاء كل نقاش، فعلموا بالأمر و راقبوه ، و جلسوا  وتحدثوا معه، لكنه لم يمتنع عن التأخير وفي النهاية  هددوه بحبسه في البيت إذا بقي على حاله، فأخذ لنفسه راجع و لم يعد يتأخر كما كان سابقاً، وعلى الرغم من غضبه الشديد مني  في بداية الأمر لأنني أخبرت أهله، لكن همي الأول كان إصلاح حاله والحمد لله وجدت نتيجة، و أصبحت علاقتنا أفضل حالاً مما كانت عليه سابقاً.

و كان لنا زاوية أخرى من النقاش في حين واجهت النساء بعض المشاكل الزوجية الخاصة فهل من الحكمة البوح بها لشخص داخل الأسرة أو خارجها  أم تتكتم على المشكلة و يبقى الوضع على ما هو عليه، سألنا ف، ع فقالت:" حدثت معي مشكلة تتعلق بالأمور الزوجية الخاصة و كانت مشكلة لا يمكن السكوت عنها أو تلافيها؛ لذلك حاولت اللجوء لمرشدة لتساعدني على حل هذه المشكلة دون علم زوجي، و فنصحتني بالذهاب إلى طبيبة مختصة و محاولة إقناع زوجي بهذا الأمر، و بالفعل ذهبت للطبيبة، فثار زوجي و غضب لكنه بعد ذلك اعتذر مني حينما وجدت نتيجة بذهابي للطبيبة أدت إلى حل المشكلة، و حقيقة لم ألجأ إلى أمي أو حماتي لأنني أعرف أنهن لنت يعالجن الموضوع كما يجب، و ربما لو قلت لهن لحدثت مشاكل تفوق المشكلة التي كنت أعاني منها.

مبيحات الإفشاء

 نقلنا ما سمعناه من الناس إلى د. اليازجي فعلق على قضية إفشاء الأسرار في هذه الحالات التي تستدعي البوح بها فقال:" هناك حالات تستدعي المرأة للبوح بأسرارها وهو القسم الآخر من الأسرار : بمعنى إن كان الحديث فيها لإثبات حق أو رفع ظلم و هي ما يمكن تسميتها ضوابط إفشاء الأسرار، وقد وضع مجمع الفقه الإسلامي مجموعة من الضوابط تُحدد الحديث في هذا الموضوع تتمثل في وجود شكوى من أحد الزوجين و تريد الزوجة مثلاً، تَدخُّل أحد في قضية للإصلاح؛ كأن يكون عند زوجها مرض نفسي أو يقوم بمعصية معينة كالزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك؛ في هذه الحالة على الزوجة أن تدخل أهل الخير و الإصلاح، و تبين لهم هذا المرض أو هذه الممارسات لكبح جماحه.

كذلك إذا تعرض الزوج لمرض معين كالطاعون أو الإيدز أو أي مرض من الأمراض المعدية، و الزوج لا يريد كشف هذا الأمر؛ حتى لا تنتشر الأمراض، كذلك ما يتعلق بهذه النقطة في حال أصيب الزوج بمرض معين و لا يريد الذهاب للطبيب، فالأصل أن تذهب الزوجة للطبيب و تخبره بهذا الأمر، كذلك ربما كانت مسألة تتعلق بالمعاشرة الزوجية أو معوقة من المعوقات فالأصل أن تلجأ لأصحاب الشأن؛ لأن هذه المسألة تهمها و تؤثر على حياتها الزوجية.

و في حالة أخرى إذا وصل الخلاف بينها و بين زوجها إلى المحكمة أو القضاء، فيجوز لها الإفصاح عن هذه القضايا؛  حتى ينصفها القاضي في هذا الأمر، و هي توصل القاضي إلى الحكم بالعدل.

هذه هي الضوابط المحددة لمثل هذه الأسرار، و ما عدا ذلك يعد إفشاءاً للأسرار الزوجية، و اعتبره العلماء خيانة، و كان أشد فحشاً قبحاً إذا كان متعلقاً بالحياة الزوجية وهنا لابد من التذكير بقول الرسول صلى الله عليه و سلم :"إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته و تفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه".
 
في هذا اللقاء تعجز الحلول ليس لطبيعة المشكلة و لكن لطبيعة النفس البشرية التي تختلف من شخص لآخر، س.ع 38 عاماً رزقني الله بزوج ثرثار، ينقل كل ما يدور في بيتنا إلى أهله،  وليس ذلك فحسب، فأحياناً أجد أخبارنا عند أصدقائه أيضاً، فأتفاجأ و اُصدم، لكنه واقع فُرِض علي و لا أستطيع تغييره، رغم أنني حاولت إقناعه مرة و اثنتين و ثلاث، فيقول لن أكررها بعد ذلك، و لكن كما يقولون الطبع غلب التطبع، و كثير من المشاكل تحدث بيننا بسبب هذا الموضوع فلجأت إلى أهله لكنهم لم يفعلوا شيئاً، و قلت لأهلي فهدّدوه بالانفصال إذا لم ينصلح حاله، لكني لي أربعة أبناء منه و لا أستطيع الانفصال عنه بسبب أولادي وتركت أمري إلى الله فهو يُغيّر و لا يتغير. 

استشرنا د. اليازجي في هذه القضية فأجاب قائلاً:"الأصل في ذلك هو الصبر و محاولة حل المشكلات بالموعظة الحسنة ثم تقديم النصائح و الاستدلال ببعض الشواهد العملية في المجتمع و خاصة إذا كان هناك قصص مماثلة لكشف الأسرار عملت على هدم البيوت و ذكر بعض القصص في حياة السلف، و إذا لم يكن نتيجة فالأولى اللجوء إلى الأهل ليكونوا في مأمن من شبح الطلاق، و الإكثار من الدعاء بالهداية خصوصاً في الأوقات التي يستجاب بها الدعاء".

 تريد لي الخير لكنها!

و كما هو معروف فللأم دور كبير و تأثير عظيم على ابنتها خصوصاً في محاولات الأم الحثيثة دائما لمعرفة ما يدور في بيت ابنتها بدافع الاطمئنان الذي تختلف ترجمته من أم لأخرى فكان لنا هذا اللقاء مع أم محمد عبيد50 عاماً التي قالت:" تزوجت ابنتي منذ عشر سنوات ما اشتكت إلى و لا على والدها من زوجها قط، و لم تخبرني أبداً عن مشكلة إلا بعد حلها، غاية ما كانت تطلبه مني الدعاء حتى أنني كنت اعرف أنها تواجه مشكلة عندما تلح علي في طلب الدعاء، و نحن من جهتنا لم نحاول التدخل طالما أرادت ذلك.

أما هنا فاختلفت النتيجة باختلاف السلوك تقول أ. د 23 عاماً:"حدث معي العديد من المشاكل بسبب تدخل حماتي في كل كبيرة و صغيرة في حياتي، فكنت أحدث أمي بذلك بما يحدث معي بغرض الفضفضة لا غير ، لكن أمي عاتبت زوجي و قست عليه بالكلام و عرف زوجي أن أمي تعرف بالكثير من المشاكل التي تحدث بيننا، فغضب زوجي و ثار علي وقال لي:"خليكِ عند دار أهلك"،  و بعد صولات و جولات حتى عدت إلى البيت و عادت المياه إلى مجاريها، و من بعدها قررت أن لا أخب أحدا بما يحدث داخل جدران المنزل حتى أمي.

ارتأينا من هذه اللقاءات ضرورة معرفة شروط الإفصاح عن هذه الأسرار في المُفصِح و المُفصَح له فقال د. حسن الجوجو رئيس محكمة الاستئناف بغزة لابد و أن يكون الشخص عاقلاً و حكيماً، فلابد للزوجة إذا أرادت أن تفصح عن بعض المشاكل الزوجية أن تكون الزوجة عاقلة و تصف المشكلة كما هي و لا تعطيها حجماً أكبر من حجمها الطبيعي، كذلك الزوج لابد أن يكون عاقلآً و يقدر الأمور بقدرها، بمعنى أننا يجب أن ننظر إلى النتيجة المترتب عليها موضوع الإفصاح، بحيث لا يقع كلاهما في مشكلة كبيرة في المستقبل.

و أضاف د. الجوجو:" هذا ما يتعلق بالمُفصِح، أما المُفصَح له فيجب أن يكون أميناً و تقياً و يحفظ الأسرار، لا أن نعطيه لمن ينشر الأسرار في المجتمع كنشر النار في الهشيم.

تعليقات