الاغتراب النفسي .. ماذا تفعل إذا كنت غريباً في بيتك ؟

ماذا تفعل إذا كنت غريباً في بيتك ؟

أناس غرباء بين أهليهم.. بعيدون رغم قربهم



يقول أبو حيان التوحيدي: "أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربه، الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله، وإذا تنفس أحرقه الأسى والأسف، وإن كتم أكمده الحزن واللهف، وإذا زار أغلقت دونه الأبواب، وإن استأذن لم يرفع له الحجاب".

فلو رأيت أي انحراف في مزاج ابنك أو ابنتك قد يدعوه إلى الانسحاب أو الانعزال عن الأسرة أو الأصدقاء، أو رأيته عازفاً عن أمور كانت مثار اهتمامه دون سابق إنذار، أو تعرض لاستجابات عنيفة متطرفة كالعدوان نتيجة للقلق والتوتر، أو رأيته ضعيف الثقة بالنفس وعاجزاً عن تحمل المسئولية، و فاقداً للرغبة في الحياة، فاعلم أنه دخل مساحات الاغتراب النفسي، التي تستحق أن تكون مثار اهتمامك لتساعده على تخطي ما يعانيه.

"الغربة النفسية ليست أن يعيش الإنسان وحيداً وإنما أن يشعر بالوحدة وسط أهله وأقرانه". بهذه العبارة استهلت إيمان الجريدلي حديثها معبرة عن الاغتراب النفسي بأنه صعوبة تأقلم الفرد مع الواقع المعاش وهو في رأيها شعور يمر به الجميع على اختلاف أعمارهم وأجناسهم كأن يتفاعل الفرد مع أشخاص لا يشعرون به إما بسبب اختلاف الآراء أو الأفكار أو المشاعر، الأمر الذي يؤدي إلى تصادم في المواقف ينشأ عنها اغتراب نفسي.
 
وبلهجة هادئة تابعت حديثها: " من تجربتي الشخصية أعتقد أن أصحاب الأفكار السامية والنبيلة هم من يشعرون بهذا الإحساس بسبب سمو وارتقاء أفكارهم التي قد تكون أرفع من أفكار الآخرين، فأنا أحيانا أجلس مع أشخاص ويدور بيننا حديث لكني أجد أرائهم متخبطة نوعا ما و لا أساس لها من الصحة فيحدث تضارب في الأفكار و ألجأ إلى الانعزال عنهم، لأنني أتجنب النتائج المترتبة على هذا الحوار  ".

وتتابع: " الموقف يكون طارئ في حالته غير المرضية و يزول بزوال الأثر ولا يدوم مدة طويلة معي بسبب قوة شخصيتي، لكنه يتكرر كثيرا، لذلك فلابد من أن يترك أثرا في نفسي فأختصر و اعتزل في المواضيع التي لا أتنبأ نتيجة في نقاشها ".
 
سها الشوبكي تبدي رأيها في الموضوع قائلة: " أغلب حياتي أشعر أنني أعيشها في غربة دائمة لا تنفك عني، لا أجد إنساناً يفهمني ويستوعب شخصيتي، رغم محاولاتي للتخلص من هذا الأمر من خلال مناقشة أهلي ومحاورتهم، فأنا أشعر بغربة بين أهلي و إخوتي، واعتمد فكرة النسيان لأريح نفسي من ذلك؛ لأنني دائمة الشعور بالتوتر والقلق كأنني أعيش في عالم والناس في عالم آخر، ولا أجد وسيلة غير البكاء، لأن طبيعتي أن لا أتحدث عما بداخلي".

وتسرح بأفكارها بعيداً وتقول: "لكن الموقف الذي تأثرت فيه كثيرا و شعرت بغربة تفوق طاقتي حينما تقدمت لامتحان و كان طويل و صعب وقبل انتهاء مدة الامتحان أخذت المراقبة الورقة بطريقة خدعة فقالت لي: افتحي الورقة على جهة الاسم للتأكد من بيانات الطالبة، لكنني فوجئت بها تسحب الورقة و لم أكن انتهيت من الإجابة بعد، صعقت من ذلك الموقف و كنت أفضل أن تطلب مني الورقة على أن تأخذها بهذه الطريقة".

وعن تعاملها مع هذا الموقف تتابع: "هو أصعب موقف مر على منذ دخولي الجامعة، صدمت في البداية لكني طالبت بحقي و ذهبت للمجلس و العمادة بعد مرور عدة أيام رغم علمي أنهم لن يفعلوا شيء و حاولت تهدئة نفسي بعد ذلك، و مازلت متأثرة بالموقف حتى الآن و لن أنساه أبدا".

عندما يكون قاتلا

ويروي لنا هاني شحادة الموقف الذي جعله يعيش هذا الإحساس قائلا" الاغتراب إحساس صعب أتمنى أن لا يعيشه احد فقد مررت به مدة طويلة دامت أكثر من أربعة شهور حينما حدثت مشكلة بيني و بين صديق أكثر من أخ بالنسبة لي بسبب اختلاف في وجهات النظر حول الفصائل فشب خلاف بيننا و حصلت قطيعة، كنت خلالها أشبه بإنسان ميت لا روح فيه و لم يعد لي رغبة بالحياة؛ لأنه كان جزء مني يمثلني و أمثله فقاطعت الجامعة و الأصدقاء و تفوق علي الموقف بدلا من العكس لأنني بطبعي إنسان حساس، لكنني لم أستطع التحمل بعد مرور أربعة شهور و قررت أن أسوي الأمور بيننا و تناقشنا في الموضوع و تصافحنا و شعرت بعدها أن روحي ردت لي بعد مدة من العذاب".
 
وشاركتنا أحلام أبو علوان رأيها قائلة: " رغم أنني دائمة الشعور بذلك بسبب طبيعة حياتي، ؛لأن أهلي يلبون احتياجاتي المادية فقط، فالأهل ينسون أن ابنهم كائن بشري له احتياجاته العاطفية حيث يحتاج إلى الشعور بالحب و الحنان والإحساس بإنسانيته في عالم الماديات، و زاد إحساسي بذلك حينما واجهت مشكلة مع صديقتي حيث قاطعتني فجأة دون سابق إنذار و لم أعرف السبب، وابتعدت عني، وبعد يومين لم استطع التحمل و صارحتها بذلك و سألتها عن السبب لأنني تأزمت كثيرا، و تعاملت مع الموقف بمبادأتي معها في الكلام و سؤالها عن سبب هذا الجفاء فحدثتني عن موقف صدر مني دون قصد وتصافحنا وانتهى الموقف لكنني أتعب كلما تذكرته، لكنى أحمد الله أنني تداركت الموقف و لم يدم الخلاف بيننا".
 

تأثير الشخصية القوية

ويقول وائل السلطان 24 عاما: "كل شخص معرض لهذا الإحساس؛ لأن حياتنا ليست مفروشة بالورود و الرياحين، ولابد من المرور بمواقف مزعجة في حياتنا، ويعتمد تأثيرها على الشخص نفسه و خبرته السابقة ومخزونه المعرفي، فالخطورة ليست المرور في هذه التجربة؛ إنما الاستمرار في ذلك وعدم القدرة على التكيف مع الواقع بعد ذلك، ويطلعنا على تجربته قائلا:" شعرت بذلك حينما تقدمت لامتحان مادة درستها جيدا أو هكذا خيل إلي، لكنني تفاجأت بحمل المادة صدمت في البداية؛ لأنها المرة الأولى التي تحدث معي و قررت عدم العودة إلى الجامعة عدة أيام تعبت فيها كثيرا و لم أحادث احد أثنائها لكنني قررت بعد ذلك مواجهة الموقف و قلت لنفسي أنها ليست آخر الدنيا و تأقلمت مع الواقع و عدت لدراستي و متابعة حياتي كما كانت سابقا و ما فادني في تخطي هذه الأزمة وعدم الاستمرار فيها، قوة شخصيتي و قدرتي على مجابهة المواقف".

أما خالد بركات فحدثنا عن تجربته قائلا:"بعد انتهاء دراسة الثانوية العامة كانت أمنيتي إكمال دراستي الجامعية في الخارج وكنت أحلم باليوم الذي أسافر فيه ولم أرغب قط في الدراسة هنا  لكني استيقظت على كابوس المعابر التي لم تسمح لي بذلك، وقررت عدم الذهاب إلى أي جامعة لكن والدي ألحقني بالأزهر ولم أداوم مدة شهرين، و تملكني الشعور بالإحباط الذي سود لون حياتي، لكنني تقبلت الواقع بعد عناء و حاولت التكيف معه ووضع حد لهذه المشكلة، فهذه أهم العوامل التي تساعد الشخص في تخطي أزماته مع مساعدة الأهل و الأصدقاء طبعا".

ماهية الاغتراب و أسبابه

"الاغتراب يحمل في معناه بعدين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، أما الإيجابي فهو اغتراب اختياري، كاغتراب الفنان، ورجل الثورة، ورجل الدين، فهؤلاء جميعاً ينفصلون طواعية عن الحياة ويدخلون في طور الإبداع والخروج عن المألوف، لبناء الإنسان والأوطان. أما الاغتراب السلبي فهو الانسلاخ عن المجتمع وعدم الانتماء، والعزلة عن الآخرين، والدخول في حالة صراع بين ما يراه الفرد وبين ما تمليه القيم السائدة في المجتمع وبالتالي يشعر الفرد بأنه غريب عن نفسه ثم عن المجتمع الذي يعيش فيه".

ويضيف دكتور علم النفس جواد الشيخ خليل : "أعراض الاغتراب النفسي، نفسية سلوكية تظهر في عدم قدرة الإنسان على التوافق والتكيف مع واقعه المعاش، بشكل يصبح فيها غريباً عن ذاته، ومن ثم عن واقعه".

و استطرد: "تعددت أسباب هذه الظاهرة، فمن الأسباب المؤدية للاغتراب: غياب القيم الدينية والإنسانية في حياة الفرد، وعدم إحساسه بالحرية والمسئولية سواء عن نفسه أو عن مصيره، وعدم تقبل الفرد لذاته ومن ثم عدم تقبله للآخرين، ومعاملة الوالدين سواء كانت الكابتة أو المتساهلة، والتنشئة الاجتماعية الخاطئة القائمة على التسيب أو التعصب، وارتفاع معدل البطالة، وكذلك التناقضات الموجودة داخل المجتمع والتي جعلت الفرد يفتقد للمثل النموذج والقدوة".

ويرى الشيخ خليل أن أكبر مثال على ذلك هو حياتنا السياسية حيث لأول مرة يجبر شعب من الشعوب على الإقرار بأنه لا حق له في تقرير مصيره على أرضه، وأن مغتصبي هذه الأرض لهم وحدهم الحق والشرعية في التعبير عن هويتهم القومية والثقافية على شكل دولة أحادية القومية، ويطلب من هذا الشعب -في أول تجربة من نوعها في التاريخ- أن يقر بشرعية الاغتصاب وأن وطنه يخص شعباً آخر".

أزمة الاغتراب

وفي وقفة لنا مع البيئة المحيطة وتأثيرها على الاغتراب التقينا د. موسى حلس، أستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة الأزهر، الذي عبر عن الاغتراب بأنه: "أزمة حقيقية تعاني منها جميع المجتمعات ، وهي تشكل خطراً على الفرد و المجتمع و الإنسان، فالاغتراب هو عدم قدرة الأفراد على التكيف مع الواقع المعاش ، بمعنى انفصال الإنسان عن قضاياه المجتمعية ، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم تربوية أم ثقافية، وعدم التوافق معها ، وبالتالي عدم قدرة الفرد على معالجتها".

و تابع د.حلس: "الاغتراب ظاهرة نفسية اجتماعية تصيب الفرد والمجتمع والجماعة، وإذا اغترب الإنسان عن واقعه الاجتماعي الذي يعيش فيه يشكل خطراً حقيقيا على مستقبل وتطور المجتمع الإنساني".

و تطرق د.حلس إلى العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى الاغتراب: "المعروف أن أي مجتمع من المجتمعات لديه منظومة من القيم والمعايير والعادات والتقاليد التي يتم صقل شخصية الإنسان من خلالها حتى يستطيع التكيف في البيئة والمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وهذه المعايير هي التي تحكم المجتمع وتلعب دوراً في عملية الضبط الاجتماعي وضبط السلوك، لكن نتيجة لما نشهده من غزو لثقافة الصورة والجسد، وأصبحت مجتمعاتنا مستهلكة لهذه الثقافة، بمعنى أننا نستورد ثقافة معلبة محدودة الصلاحية لا تتناسب مع معايير ديننا الحنيف ولا مع الواقع المعاش، الأمر الذي أدى إلى صراع مع القيم السائدة الموجودة في المجتمع الفلسطيني، فحدث نوع من الخلل أدى إلى اغتراب المجتمع وأفراده عن القيم والمعايير التي لا تأتي إلى الإنسان إلا من خلال الأسرة التي يتم من خلالها صناعته وتشكيله وإمداده بقيم ومعايير تتناسب مع الواقع الاجتماعي المعاش".

و تابع د. حلس: "لكن لو نظرنا الآن إلى الأسرة نجدها بدأت تتأثر بوسائل الإعلام والغزو الإعلامي والفيديو كليب وبعض الثقافات اللاأخلاقية، ما أدى إلى انقسام العائلة التي بدأت تهتم بمظهر العائلة لا بجوهرها المتمثل بالتنشئة السليمة التي من خلالها يخرج إنسان معافى سليم خالي من الأمراض النفسية و الصحية".

ويرى د. حلس أن هناك عنصر الصراع بين المعايير الاجتماعية التي ينبغي على الإنسان التمسك بها: "فعندما يجد الفرد أن هذه المعايير لا تشبع رغباته وحاجياته، يبدأ بالبحث عن وسائل غير مشروعة لتحقيق أهدافه، نتيجة قصور الوسائل المشروعة فيغترب الإنسان عن المجتمع، ولو نظرنا إلى الأفراد المغتربين عن قيمهم وأهدافهم نجدهم أفراد لا يشاركون لا في الإطار المشترك بقيم المجتمع، ولا حتى في قضاياه المجتمعية والسياسية والثقافية، من هنا تحدث أزمة اغتراب داخلي يعاني منها الشخص وتنعكس على المجتمع أيضاً".

ويتابع د.حلس: "بالإضافة إلى هذه الأسباب هناك سبب رئيس يتعلق بأزمة الأخلاق حيث أصبحنا نفتقد إلى هذه المنظومة الأخلاقية التي تحدد سلوكنا وتوجهه الوجهة السليمة، وأي مجتمع لا تسوده الأخلاق لا يمكن أن يعيش بأمن و أمان، وجميع تلك المؤشرات تمثل خطراً حقيقياً بالنسبة لمجتمعنا الفلسطيني ومجتمعات العالم العربي بصورة عامة".

وطالب د.حلس -للخروج من هذه الأزمة- بالعمل على دراسة هذه الظاهرة دراسة علمية حقيقية: "ويجب أن يأخذها أصحاب المكانة العليا في السلطة باهتمام حقيقي، وإبراز هذه الظاهرة على وسائل الإعلام، و العمل على تحديد أخطارها على الفرد والجماعة حتى نستطيع توضيح ما هو الاغتراب ومدى خطورته على الفرد و المجتمع".

ويتابع د. حلس: "على المسجد والمدرسة والجامعة العمل على إعادة القيم الدينية والمجتمعية والإنسانية التي حث عليها الإسلام من أجل الخروج من هذه الأزمة، و يجب على الأسرة أن تبدأ بعملية إعادة تنشئة أبنائها بما يتناسب مع ثقافتنا الإسلامية وإرشادات الرسول الكريم في كيفية تربية أبنائنا، وأخذ ما يتناسب من الثقافة الحديثة مع قيمنا وعاداتنا وثقافتنا".

بدوره يرى د. الشيخ خليل أنه يمكن التخفيف أو التخلص من الاغتراب النفسي والعودة إلى الانتماء، والتقبل، والتوحد، والالتزام، والتقدير، والولاء للجماعة، من خلال الإرشاد والتوجيه النفسي، والمدخل التعليمي، والمدخل الاجتماعي البيئي، والمدخل السيكولوجي ، والمدخل الديني؛ أي تنمية الوازع الديني.

تعليقات

  1. ماشاء الله احسنت يا اخت انوار جدا رائعه تحقيقاتك ونيرة وفكر مستنير ماشاء الله

    ردحذف

إرسال تعليق