أطفال فلسطين .. وأسرار الصمود ..

أطفال فلسطين .. وأسرار الصمود ..

بأوتار المقاومة عزفوا أنشودة الثبات والتحدي و نطقوا أبجدية المقاومة

صبر وصمود واحتساب، ومستقبل وتفاؤل وبناء، معانٍ أوجدها أطفال فلسطين في قاموس حياتهم التي عنونوها بعنوان "الأمل والكبرياء"، وأخرجوها إلى واقع غزة الذي رسموه بأناملهم الصغيرة في لوحة تمثلت معانيها باستمرار الحياة والمقاومة، فأطفال فلسطين، الأسطورة التي أوجدت نفسها في واقع لم يكن فيه للأسطورة وجود، بأوتار المقاومة عزفوا أنشودة الثبات والتحدي، بإيمان يضاهي الجبال، أعادوا إلينا سِير الصحابة الأجلاء، فأسامة ابن زيد الذي أمر على جيش من خيرة المسلمين وأجلهم وهو لم يتجاوز السابعة عشر من عمره ، لم يعد ماضٍ بعيد، يصعب استعادته، فقد أعاد أطفال فلسطين مجد الإسلام ورفعته بصمودهم وإبائهم.

كان للسعادة وقفة مع أطفال غزة الذين لا يختلفون كثيرًا عن رجالها، لأنهم تعلموا لغة الكبار، وصمود الرجال، وشموخ وكبرياء الأحرار، الذين نطقوا أبجدية المقاومة بقوةٍ، وعلموا العالم دروساً في الصبر والثبات.

بلغة الرجال تحدث وليس بلغة الصغار، الطفل "لؤي" صاحب السبعة أعوام والذي فقد عينيه وحُرق جسده جرَّاء القصف بالقنابل الفسفورية، شاهده العالم أجمع وهو يتحدث بثبات الرجال وعزيمة الأبطال، رافضًا الاستسلام لعدو جبان يخشى المواجهة، ويُنهي حديثه وهو يقول: "لا اله إلا الله، محمد رسول الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولن نستسلم إن شاء الله".رجولته تسبق طفولته التي تناساها لبضع من الوقت ليعيش الواقع الذي فرضه الحرب على غزة، والذي تعلم مواجهته بأساليب الرجال.

بينما ياسر سمير حسين 15 عاماً الذي استشهد والده أثناء الحرب على غزة، تقابله بنظرة حزن لفقدانه لوالده، فتخرج من فيهِ كلمات الصبر والصمود والاحتساب، فيُعلم جيلاً بأكمله معانٍ جديدة أكسبته إياها الحرب على غزة، لا تشعر ضعفاً في كلماته إنما وجعاً لفراق والده الحبيب فكانت كلماته للسعادة:" سأستمر في دراستي وأحقق حلم والدي بأن أصبح مهندساً، و سأرسم معالم غزة الجميلة الصامدة بأجمل بناء، فلن يثنينا الاستشهاد، ولن يثبط من عزائمنا و سأسير على نهج والدي بإذن الله".

الأطفال المعجزة

ألمازة السموني" 12 "عاماً، صورة أخرى رفضت إلا أن تكون معجزة بصبرها، عيناها تتوهج بريقاً من الثبات، صابرة محتسبة، لا تسمع بين ثنايا كلماتها وهناً، فقدت والدتها وأربعة من أخواتها وابن أخيها، ولم يتبقََ لها سوى والدها وشقيقها الصغير وشقيقتها، تقول "للسعادة" بلسان التحدي والصمود: "تعتقد إسرائيل بقتلها لنا أننا سنركع ونتنازل عن أرضنا، خسئوا فيما اعتقدوا فلن ينالوا منا، وسنكبر ونتعلم ونتزوج وننجب أطفالاً ليكونوا مقاومين ويحرروا القدس ويافا وعكا".

وبعينين ملؤهما الإصرار أضافت هدى: "لن نتنازل عن فلسطين المحشر والمنشر، لو مزقنا أشلاء، و لو دمروا بيوتنا مرات ومرات، فسنبقى مرابطين فيها ليوم القيامة، وسنقاتل حتى الرمق الأخير، وسننتقم لعائلاتنا مهما طال الزمن".

الطفلة شهد ابنة الثلاثة أعوام ابنة الشهيد سمير محمد لم تتغنَّ بغناء الأطفال"يا بابا أسناني واوا"، بل كان شداؤها"اربط الجرح وقاوم، وامسح الدمع الحزين"، أنشودة تحمل كبرياء الطفل الفلسطيني الذي يربط على جراحه، و يواصل حياته وعطائه بل و يرسم أحلامه في عالم طفولته الخاص الذي استمد خصوصيته من خصوصية قضية فلسطين، شهد التي لم يمتلئ عقلها الصغير بالكثير من ذكرياتها مع والدها تتحدث إلى السعادة بكلمات الكبار في براءة تنساب مع طفولتها حيث لم تكتمل جميع حروف نطقها :"بدي أكمل تعليمي وأصير دكتورة وأعالج المرضى وبس أكبر بدي أقاوم اليهود لأنهم قتلوا بابا".

محمد عفانة، وبشار النديم الذين أصيبوا في الحرب على غزة، تقرأ بعيونهم وميض النصر والثبات، حالهم ينطق عزة وكبرياء، و شموخ أوجدوا معالمه بحكاياتهم، فرغم إصابتهم أثناء الحرب إلا أن لسان حالهم، توحد و تلخص في عدة كلمات" لن نستسلم للعدو، ولن نتنازل عن أرضنا، و سنبني غزة التي ستبقى صامدة صمود الجبال، ألسنتهم تلهج بعبارات الحمد، لا تجد في حديثهم اليأس، بل هي عبارات الصمود التي تتبدل.

عيناها تتوهجان بريقًا وصموداً، محتسبة استشهاد والدها عند الله ذلك حال الطفلة هبة محمد، التي لم تتجاوز الثامنة من عمرها، "حسبنا الله و نعم الوكيل"، العبارة التي استهلت بها حديثها "للسعادة"، متابعة :"سأصبح مدرسة،  و أحقق حلم والدي، وأعلم الأطفال درب النضال و المقاومة، وأحدثهم عن فلسطين وحق العودة و اللاجئين، والقدس الأسيرة في يد الاحتلال، سأزرع فيهم حب الشهادة، وأعلمهم دروس العزة لا الضعف و الهوان". كانت تلك القيم التي غُرست في مفاهيم هبة والتي أرادت إيصالها إلى الأطفال حينما تصبح مدرسة.

لغة الكبار

لردود فعل الكبار دور مهم و فعال على نفسية الأطفال الذين كانوا كبارا بمسلكياتهم، درداح الشاعر دكتور علم النفس المساعد بجامعة الأقصى بغـزة فسَّر ل"السعادة" أسرار تحدي الصغار و تكلمهم بلغة الكبار، فقال:"معظم مسلكيات الأطفال رد فعل لمسلكيات الكبار فإذا وجد الطفل الصغير، الكبير على درجة من الصمود ورباطة الجأش فينعكس ذلك على نفسية ويتحدث بنفس اللغة، وقد وجدنا مجتمعنا أثناء الحرب" الكبير، والصغير، والمرأة ، والشاب" يتحدث بلسان الإرادة المتحدية الثابتة والموقنة بنصر الله، فقرأ الطفل نفوس الكبار والمتمثلة بالأنفة والكبرياء والإرادة الصلبة والقوية، وبدأ الطفل يستخدم تلك الألفاظ كالجرأة و الشجاعة وعدم الرغبة في الهجرة فمعنى أنها دارت في مجتمع الكبار وانتقلت إلى مجتمع الصغار".

وأضاف موضحا:" الصغار لديهم قدرة هائلة على الاستقبال و تلقي المفاهيم التي دارت في رحى الكبار، فكانت لديهم استعدادات لنقل الثقافة من الكبار، ولولا أنهم امتلكوا تلك الاستعدادات المسبقة لديهم لما استطاعوا تخطي الواقع المعاش، فهم لديهم قدرة هائلة على الصمود والتحدي فأضافت على إرادتهم إرادة جديدة".

تحدث أطفال فلسطين بطلاقة لسان أدهشت جميع من استمع لكلماتهم، و بلغة يحتاج أطفال العالم لوقت طويل لتعلمها، أرجع د. الشاعر ذلك إلى أمرين أحدهما يتمثل بنسبة ذكاء الطفل الفلسطيني و الذي له علاقة بالنشاط اللغوي، بالإضافة إلى الحالة الانفعالية التي فجرت طاقاته وإمكانياته العقلية، والأمر الآخر يعتمد على معايشته لواقع الصبر و الصمود الذي يدور حوله فالتقط لغته  وكلماته من الواقع المحيط به.

وللواقع المعاش دور في التأثير على الطفل يفسره د. الشاعر قائلا:" الواقع المعاش علم الطفل على الثبات و الصمود حيث أن الطفل الفلسطيني عايش الكثير من الآلام و الأحداث و تعرف على أساليب مواجهتها، لكن الحرب أبرزت تلك القدرات العظيمة و الإرادة الفولاذية و فجرت طاقاته الإبداعية من خلال الأحداث و عبر عنها بعدة وسائل إما بالمواجهة أو اللغة أو من خلال الرسم، فوجدنا الأطفال سرعان ما تكيفوا و لم يتصرفوا تصرفات الأطفال المعتادة كالخوف والوهن و البكاء".

كما أن التربية عامل فعال في استقبال الطفل لما يحدث د. الشاعر  يعقب قائلا:" التربية عملية تعديل سلوكي، والسؤال هو على أية مفاهيم يُعدَّل السلوك، فيمكن تربية الطفل على ثقافة المقاومة، بمعنى ثقافة أننا نعيش في حالة حرب و صراع، و لا بد من تحمل الأزمة، وهو السائد في مجتمعنا، ما يعرف  "بالتربية إلى المقاومة" ، و تعتمد على ثقافة المقاومة التي تعتمد على الصمود والثبات و تنزع معاني الجبن، و الخوف مستبدلة إياها بحب الوطن و الدفاع عنه و الحفاظ على كرامته".

و تابع قائلا:" فالتربية إلى المقاومة تخلق الرغبة في إعداد جيل مقاوم يؤمن بثقافة الصمود بدلاً من ثقافة الاندحار والفرار، وهذا ما حدث في مجتمعنا حيث اختار الثقافة الأولى والتي تجسدت عملياً على أرض الواقع".

و للدين دور فعال

كما أن الدين الإسلامي بمفاهيمه و تعاليمه كان نموذجا في خلق الشخصية المتوازنة للطفل الفلسطيني ذلك ما ووضحه د. الشاعر قائلاً:" الدين هو المحرك الأساسي في تكوين الشخصية المسلمة والداعم النفسي الأول، حيث يمد الشخصية بصفات التوازن و التكيف مع النفس والمجتمع، فالدين الإسلامي أقوى الحلقات في خلق الشخصية القوية، فإذا أردنا نشءً محافظاً على وطنه و أرضه و عرضه فلابد من تربيته على العقيدة الإسلامية تربية إيمانية وعقائدية لأنها مفتاح الشخصية الناضجة المحققة للنصر و التمكين".

سألنا د. الشاعر عن تفسيره لردود فعل الأطفال في الحرب على غزة فقال:" لابد من الإشارة إلى إحدى المسلمات القائلة بأن الحدث الصادم لا يمتلك تأثيراً ذاتياً على الإنسان إلا إذا كان الإنسان مهيأ نفسياً له بمعنى أن قواه النفسية والداعمة ضعيفة، وعلى العكس من ذلك ففي حال اصطدمت بشخصية ذات إرادة صلبة فلا تتأثر، ولا نستطيع القول أن الطفل الذي تعرض لحدث صادم حتماً سيمر بمرحلة ما بعد الصدمة إنما يعتمد الأمر على شخصيته و على البيئة الحاضنة له، فإذا تلقى الطفل آلام معينة و كان ذو شخصية قوية و نشأ في حاضنة قوية و سليمة فلن يتأثر بالعرض الصادم و العكس، إذا كان صاحب شخصية ضعيفة مع تربية فاشلة فسيتأثر بالحدث الصادم".    

أسرار الصمود

أسـرار صمـود أطفال غـزة وتحمُّـلهم للشدائد وارتداؤهم لثياب الصبـر والصمود وصفـهـا الدكتور صالح الرقب، بأنه اليقين بنصر الله من قبل الجميع و التي تُرجِمت بدورها إلى الأطفال فعلِموا أنها معركة بين الحق والباطل، و أن النصر للحق على الباطل، و لو بعد حين".

وتحدث الرقب عن دور المدرسة والمسجد الذي كان له أثراً واضحاً و جلياًً على الأطفال أثناء الحرب على غزة، حيث تعلموا بها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصعوبات التي واجهته أثناء الدعوة ومن بعده الصحابة و التابعين رضوان الله عليهم، الأمر الذي خلق لديهم أرضية جيدة في تقبل البلاء و الصبر عليه كما حدث مع قدوتنا صلى الله عليه وسلم".

كما أن التربية الإسلامية السليمة للأبناء من خلال تعريفهم بالإيمان بقضاء الله وقدره والثقة بنصر الله، و الاتصال بالله من خلال الصلاة والدعاء، ووجوب المقاومة على المسلمين بسبب وجود الاحتلال و فضل الرباط و فضل الشهادة و الشهداء وأن شهدائنا في الجنة و قتلاهم في النار، ساهم كثيراً في رفع معنويات الأطفال وتحملهم وصبرهم".

وأضاف:"كما أن الأطفال عايشوا الأحداث و شاهدوا الكثير من الشهداء والجنازات سواء عبر شاشات التلفزة أو من خلال الحياة المعاصرة، كما أنهم شاهدوا قوات الاحتلال وعرفوا أنهم أعداء، و تعلموا من خلال المسجد و المدرسة على الثبات و الصمود، و تعودوا على مشاهد القتل و الدمار و أصبح جزءاً من حياة الطالب الفلسطيني".       

تعليقات