اللقطاء.. مجرمون بلا ذنب والمجرم الحقيقي مجهول

اليوم قررت أن اخترق حواجز الصمت وأدُور في فلك ضمائركم، أسأل من يرغب في سماع  صرخاتي ومن لم يرغب، ما الذنب الذي اقترفتُه حتى تحاسبوني عليه؟ من أين أبدأ صرخاتي؟ هل يوم وجدُت نفسي غريباً في بيت كبير يجمعني وإخوة لي ليسوا أشقائي؟ أم يوم وجدُت زملائي في المدرسة يتحدثون عن أنفسهم وعلمتُ أن لهم أسرة مكوناتها أب وأم وأبناء؟ أم يوم تجاهلني صديقي وابتعد عني لأن والده أمره بذلك؟ أم يوم وجدت نفسي مجرماً ومتّهماً في عُرفِ المجتمع لجريمة لم أقترفها؟
نسمة، تلك الطفلة البريئة ذات الوجه الملائكي الذي أحاله المجتمع إلى وجه لا يملك سوى العديد من التساؤلات التي لا يجد إجابة عليها، تلك العيون الحائرة، التي تدور في أرجاء الغرفة التي التقيتُها بها، تحدثنا عن خوف من المجهول لكنها تصارع الواقع، وتقول بابتسامة: "أحب المكان الذي أحيا فيه، وأذهب إلى مدرستي، وأمارس هواياتي المحببة من كتابة ورسم، وأريد أن أكون محامية أدافع عن المظلوم، وأُدين الظالم".

م.س، التي تربت ونشأت في مبرة الرحمة، تحدثنا معها عن تجربة زواجها فتقول: "تقدم شاب لخطبتي، لكني وقتها لم أكن راغبة في الزواج، لكني وافقت بعد ذلك ليس لأنني أريد الخروج من المبرة، لكن لسبب واحد: "كنت بدي أشوف كيف الناس إللي برا عايشين".
وتجيب بهدوء على سؤالنا عن الإحساس الذي انتابها لدى معرفتها بالواقع الجديد قائلة: "خليط من مشاعر الخوف والفرح، خوف من المجهول والناس ومن كل شيء، وسعادة بالخلاص من مجهولة النسب إلى إنسانة منسوبة إلى عائلة، إضافة إلى سعادتي لسعادة الموجودين من حولي الذين غمروني بفرحة عارمة".
وتضيف: "في البداية تعثرت كثيراً، فالمجتمع الذي عشته داخل المبرة مجتمع لا أحد فيه يكره الآخر، ولا يوجد فيه القيل والقال، والجميع يسعى لإسعادنا. لكن المجتمع الذي خرجت إليه غير ذلك تماماً؛ فلا أحد يتوانى عن الإيذاء، فكان تقبلي للأمر صعباً، حتى زوجي لم أتقبل! في البداية كنت أتعامل معه كأي شخص، وقد تحمّلني كثيراً، والحمد لله اجتزت هذه العقبات وحياتي الآن مستقرة".
وتتحدث (س) عن أكثر ما يؤذيها بحزنٍ غلّف صوتها: "أكثر ما يؤذيني هو عدم تقبّل المجتمع ورفضهم المستمر". وتتساءل: "ما ذنبي؟ وماذا فعلت؟".
البيت البديل
ويؤكد وائل فرج نائب مدير جمعية مبرة الرحمة أن جمعية مبرة الرحمة تستقبل سنوياً زهاء عشرة أطفال مجهولي النسب.
ويضيف: "نستقبل هؤلاء من أنحاء قطاع غزة بعدة طرق منها: مستشفيات الأطفال مباشرة، أو عبر مراكز الشرطة، أو عبر اتصال هاتفي من مواطن، أو على باب الجمعية، مضيفاً أن معظم من تستقبلهم الجمعية هم من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الساعات أو الأيام الأولى".
ويتابع فرج: أنه نتيجة الحمل والولادة غير الطبيعية ترعى الجمعية ثلاثة أطفال من مجهولي النسب يعانون من إعاقات حركية، وخمسة آخرين يعانون من نقص في الذكاء، إضافة إلى عدد آخر يعاني من إصابة عضوية، تم علاج بعضها وبعضها الآخر ما زال تحت العلاج، ناهيك عن التأثيرات النفسية الحادة عند بعض الأطفال التي تُعالج من قبل أطباء نفسيين.
ويوضح فرج أن الجمعية تتبنى برنامج الحضانة الشرعية، وهو ذو أصول إسلامية لا يسمح باختلاط الأنساب وتضييع الحقوق الإرثية للورثة، وهو البديل الشرعي لنظام التبني المحرم إسلامياً، مشيراً إلى أن(64) طفلاً من أطفال الجمعية يعيشون لدى أسر فلسطينية ضمن هذا البرنامج، وتقوم الجمعية بمتابعتهم والتدخل المباشر في حال حدوث أي خلل في معاملتهم، أو حدوث أي مؤثرات طفيفة على حالاتهم الاجتماعية أو النفسية.
ويضيف: "بمجرد استقبال الطفل يتم عمل الفحص الطبي الظاهري للطفل، وتصويره مع العلامات المميزة والأشياء المرفقة معه، ومن ثم يُرسل لمستشفى النصر بغزة لعمل فحص دقيق، ثم يتم استخراج شهادة ميلاد عن طريق وزارة الداخلية. وفي هذه الحالة تُؤخذ بصمة قدم للطفل، وتقوم الجمعية بإعطاء الطفل الاسم الأول، ثم تقوم وزارة الشؤون المدنية بإعطائه الأسماء الثلاثة الأخرى باستخدام جهاز الحاسوب لكي لا يتعارض الاسم الأخير مع أي عائلة موجودة في البلد وذلك من خلال أن يكون الاسم رباعياً والأسماء الأربعة أسماء علم وكذلك بالنسبة للأم، وعليه يتم إصدار رقم هوية له.
في فلك تساؤلاتهم
وتتحدث خلود غانم رئيس قسم المبيت في مبرة الرحمة عن المرحلة التي يبدأ الأطفال فيها بتساؤلاتهم عن حياتهم: "تبدأ تساؤلات الطفل في مرحلة المراهقة ما بين 11-12 سنة حيث يبدأ الشرود الذهني عند الطفل وتدني مستوى التحصيل الدراسي ويبدأ بطرح الأسئلة من أنا؟ ومن وضعني هنا؟ وأين أبي؟ وأين أمي؟
وتضيف أن أكثر التساؤلات الملحة لديهم: "لماذا خُلقنا ما دام الناس لا يرغبون بوجودنا؟".
وعن إجاباتهم على تساؤلات الأطفال تقول غانم: "تختلف الإجابة من طفل لآخر، وعادة نُشربهم المعلومات رويداً رويداً بطريقة تناسب مستوياتهم، ولا نصدمهم بها فجأة حتى يتقبل الطفل حقيقته دون انتكاسات نفسية.
وتتابع: "يتعب الطفل نفسياًّ حالما يصل المبرة، لكننا نحاول جاهدين تعويضه عن حبٍ افتقده، وعن أشخاص هم أغلى ما يملك المرء في حياته، لن أقول أننا كأهل لهم بل نحن كذلك فعلاً، نُسخِّر كل ما يمكنه إسعادهم والترويح عنهم، ونحاول رسم صورة جميلة للوالدين خاصة للأطفال الكبار منهم".
وتوضِّح غانم أن الأطفال يلجئون للتفريغ الانفعالي من خلال اللجوء إلى الكتابة للتعبير عما يجول في خاطرهم ووجدانهم، ويُعبّروا في كتاباتهم عن حالة الغضب من الأم والأب، أو حالة اشتياق كبير إليهما، حتى على صعيد بعض الأشرطة التي يسمعونها وتتضمن كلمات تتحدث عن الأم، يستقبلونها بالبكاء.
وتضيف: "أكثر المواقف إيلاماً للأطفال هي تلك التي يشاهدونها حينما تأتي أم مع طفلها لزيارة المبرة، فيرمقونها بنظرات حنان وحب يبحثون عنهما بين حنايا تلك الأم التي يجدون صورتها في كل أم تأتي لزيارتهم".
و تستطرد غانم: "ما يُمَيِّز المبرة أنها تُشعِر الأطفال كأنهم في بيت وليس في مؤسسة، فلا يوجد نظام ثابت مُتَّبَع، بل كل على راحته، مع وجود الضبط، لكنهم يمارسون حياتهم كما يحيا الأطفال مع أسرهم. وللمربية دور كبير في إشعارهم بالحب والحنان والاستقرار، وكثيراً ما تحدثهم بأنهم بحال أفضل من غيرهم؛ إذ لهم مأوى ويعيشون حياة بيتية عادية ويُرفَّه عنهم بالرحلات.
الأم البديلة
نفين زويّد، مربية وتسمى "أم بديلة"، تشرف على خمس بنات هن: أفنان ورغدة ونسمة وسامية وسمية، حيث تقوم بمهمة الأم التي تربي أبنائها وتُشربهم حبها وحنانها، لتعوضهن عما فقدوه من الأمومة، ويرون فيها والدتهم التي يحبونها.
تتحدث نفين عنهم بحنان دافق يخرج من خلجات قلبها حين يجلسوا في سهراتهم الدافئة التي لا تختلف عن جلسات أي أسرة؛ يتجاذبون أطراف الحديث، وتتحدث كل منهن عما يحدث معها، ويتخلل أحاديثهن مواقف مضحكة بين الفينة والأخرى.
حينما تُفقد الأسرة
ويؤكد خبراء نفسيون أن الطفل ككائن بيولوجي يتلقى الرعاية والغذاء الجسدي والروحي من أمه وأسرته اللتان تشكلان المؤسسة الاجتماعية التي يتشرب منها الثقافة والتقاليد. وعندما يُولد الطفل ولا يوجد من يرعاه أو يحتضنه، فإن ذلك يولِّد القلق وبذور الاعتلال النفسي، ويجعله يخاف المستقبل، وتتولد لديه مشاعر الاغتراب، ويبحث عن ضالته فلا يجد من يسأله، إضافة إلى شعوره بالانتقاص والدونية وانعدام الثقة بالنفس وقلة المبادرة حتى عندما يريد أن يتكلم يخشى أن يُصدم أو يُسأل من أنت ومن أبواك؟ لكن وجود مجموعة من مجهولي النسب في كنف بيت واحد أو مؤسسة واحدة يخفِّف عنهم قليلاً، ويُبدِّد أوجاعهم طالما بقوا مع بعضهم البعض، لكن لحظة الألم هي عند خروجهم إلى المجتمع ونظرة المجتمع لهم.
ويُرجع الدكتور عبد الفتاح الهمص أستاذ الصحة النفسية بالجامعة الإسلامية الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه الظاهرة إلى الفساد الأخلاقي، ودور الإعلام والمجتمع في نشر هذا الفساد، وإعاقة تيسير الزواج الحلال في وجه الشباب الذي يرغب بالزواج، وكذلك العادات الاجتماعية السيئة في المغالاة بالمهور وتكاليف الزواج، التي تسهم في تحويل الناس إلى طلب المتعة الحرام التي ينالونها بلا ثمن، بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني وتقوى الله؛ حيث إن أكثر برامج التلفاز والفضائيات تُركِّز على إثارة الغرائز والشهوات، وكذلك الاختلاط بشكل عام والعري.
ويضيف الهمص: "هناك دور كبير يقع على الأسرة وتحديداً الأب والأم في تربية الأبناء، ومتابعتهم ومراقبة علاقاتهم مع الغير سواء أكانت هذه العلاقة عبر الهواتف الخلوية، أو الانترنت الذي نجد أنه في هذه الأيام يسهِّل سُبل اللقاء المحرم".
ويتابع الهمص: "من المعلوم أنه لا ذنب للقطاء بما حصل، لذا يجب احتضان هؤلاء الأطفال، ومساعدتهم ودعمهم ليعيشوا حياة طيبة كباقي الأطفال المتواجدين بين أب وأم.
وفي توصيف لحالة الأطفال مجهولي النسب يقول د. الهمص: "يعيش مجهول الهوية داخل المؤسسات الإيوائية ضمن دائرة من الأسئلة المحيرة "من أنا؟ وكيف أتيت هنا؟ وأين أسرتي؟ وهل اسمي صحيح؟ ولماذا ليس لديَّ كبقية الناس أم وأب وأخوة؟". ويَكبُر فتَكبُر معه هذه الأسئلة، وتزداد معاناته تجاه هويته وذاته، مما يدفعه للجوء إلى الانطواء والعزلة، حيث أن المؤسسة الإيوائية لا تشبه الأسرة، لذلك يستغرب مجهولي النسب بعض المظاهر الاجتماعية مثل: مناسبات الزواج، والاجتماعات العائلية في الأعياد".
أما الأعراض التي تدل على سوء صحتهم النفسية فيُوردها الهمص قائلاً: "الشعور بالحرمان وعدم الأمن، القلق والاكتئاب، الإحساس بالكبت، الشرود الذهني، الشعور بالنقص، الشعور بالاضطهاد، العزلة والانسحاب، عدم الثقة في النفس، والبحث عن تأكيد الذات، سرعة الانفعال، الشعور بالضيق الشديد حينما يعلم من حولهم أنهم يقطنون في المؤسسات الإيوائية، الخجل عند التعامل مع الآخرين، العناد، الاضطرابات أثناء النوم، الاهتزازات السريرية، والتبول اللاإرادي، والتعثر في الدراسة وتركها بدون هدف، وانعدام الطموح".
النظرة القانونية
وكما أن لكل إنسان حقوق كَفِلَها القانون، فإن لهؤلاء حقوقهم كبشر، وجدوا أنفسهم بلا والدين أو أسرة حقيقية.
ويقول سمير حسنية، محامي نظامي وشرعي في وحدة المرأة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: "اللقيط كما عرفته المادة 356 من قانون الأحوال الشخصية هو مولود رماه أهله خوفاً من تهمة الزنا أو خشية الفقر لأي سبب آخر. وقد نص القانون الفلسطيني على رعاية خاصة للطفل اللقيط منذ ولادته على أرض فلسطينية وحتى بلوغه سن الرشد، وجاءت هذه العناية لهذا الطفل اللقيط لأنه إنسان ضعيف ليس له ذنب، فيكون جديراً بالعطف والرعاية".
ويتابع حسنية: "لقد اعتبر القانون اللقيط حاملاً للجنسية الفلسطينية بحكم الولادة على أرض فلسطين، والتقاطه فرض عين، سواء وُجد في مكان آمن أم في مكان يغلب فيه هلاكه بحيث لو تم ترك كان إثماً، لأنه وإن لم يتعرض للأذى سيموت جوعاً وبالتالي سَيَهلَك".
ويوضح حسنية أن قانون العقوبات الفلسطيني نص على أن كل من هَجَرَ ولده دون السنتين من عمره هجراً أو نبذاً غير مشروع بصورة تُؤدي إلى تعريض حياته للخطر على وجه يُسبب ضرراً، يُعاقب بالحبس لمدة خمس سنوات.
تخيل نفسك وقد قُدِّر لك أن تكون كأحدهم، فلا أحد منا يختار حياته، فهل اختاروا أن يكونوا كذلك؟ ماذا كنت ستفعل؟ فما ذنب هؤلاء الأطفال؟ ولماذا نحاسبهم على أخطاء لم يقترفوها؟ إذا كان الله عز وجل يحاسب الناس على أخطائهم، لا على أخطاء غيرهم وأنزل في مُحكم تنزيله:"ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى"، فمن نحن حتى نحاسبهم على خطأ لم يقترفوه؟
وإلى من ألقت وليدها على قارعة الطرق لتُخفي جرمها، أين أنت من عذاب الله؟ أتخشين الفضيحة ولا تخشين الله؟

تعليقات