يظن البعض أن فقدان الإنسان لطرف من أطرافه، أو إصابته بإعاقة طارئة؛ كالتي تسببت بها قذائف الاحتلال الإسرائيلي لكثير من الشبان المقاومين بأنها نهاية العالم، وأن مستقبله توقف عند لحظة فقدانه أحد أعضائه، وتبدأ عبارات الشفقة تتطاير من على الشفاه، وأكثرها إثارة بالنسبة لهم "من سترضى الزواج به بعد أن أصبح معاقاً؟".
فهل حقا من فقد أطرافه يفقد مستقبله؟ وهل حقا من فقد أطرافه يفقد حقه في الزواج وبناء أسرة؟ وكيف يمكن أن تكون حياته مع زوجته إن وجد من ترضى بواقعه؟
دخلت "السعادة" بيت عبد الحليم حسن، حيث استقبلتنا زوجته نعيمة بابتسامتها الهادئة، بينما كان الزوج يجلس في صالة استقبال الضيوف، مرحباً بنا.
وتروي نعيمة قصة زواجها: "حدثني أحد الأخوة عن عبد الحليم، وطلب رأيي في الزواج منه، فلم تكن الفكرة مستحيلة، فلطالما كنت أتحدث مع الطالبات عن هذا الأمر، وأحثهم على الزواج بالمجاهدين الذين أصيبوا: لمن نتركهم إذا لم نقبل بهم؟ ألم يصابوا دفاعاً عن الأرض والوطن؟ ألم يجودوا بأنفسهم من أجل الغير؟".
وتسترجع ذكرى زواجها، فتقول عن ردود أفعال من حولها: "الجميع استغرب الأمر في البداية، حتى أهلي رفضوا، وتحدثت معهم في الأمر حتى تفهموا موقفي".
نعيمة، التي تبدو عليها علامات الارتياح لزواجها، قاومت جميع الاعتراضات من قبل أفراد عائلتها غير المقربين، وقبلت أن تخوض غمار تجربة حكم عليها الجميع بالفشل قبل بدايتها.
تسترجع نعيمة كلمات البعض التي قيلت لها حينما طلبها عبد الحليم للزواج فتقول: "لم يشجعني الكثير على هذا الزواج، وحذروني من المسئولية الكبيرة التي ستكون ملقاة على عاتقي، إلا أن عبد الحليم يعتمد على ذاته في تلبية متطلباته بنسبة90%، و لا يشكل عبئاً عليّ بالمطلق، ولم أشعر يوماً أنه يعاني من نقص ما".
ويشاركها عبد الحليم الذي أقعدته رصاصات الاحتلال وأفقدته القدرة على المشي الحديث بابتسامة علت محياه: "إلا إذا كنت أريد أن أتدلل على نعيمة، فأطلب منها مساعدتي، كما يتدلل أي زوج على زوجته".
ويتحدث عبد الحليم: "كان قدر الله أن أتزوج، بواسطة رجل خير تحدث معي عنها، وتحدث معها عني، وقبلت نعيمة رغم معارضة البعض من أهلها".
نعيمة وعبد الحليم الزوجان اللذان نقشا سعادتهما بريشة المحبة والإخلاص، لا يأبها لما يتحدث به الآخرون عنهما، ويجعلان اللحظات التي تجمعهما لحظات هناء يتمنى الجميع أن يعيشها.
يقول عبد الحليم: "الجميع يحسدوننا كيف أننا لا نمل من بعضنا ونصنع النكات والضحكات فيقولون لنا: "انتوا بتزهقوش من بعض؟"، بينما تقاطعه نعيمة في الحديث و تقول: "أنا لا أمل الجلوس في البيت طالما أكون أنا وعبد الحليم وطفلي الذي ملأ علينا حياتنا، و البعض يعتقد أن السعادة الكبرى في الخروج من المنزل والتنزه، وأنه من لا يفعل ذلك لا يعيش سعيداً، لكن على العكس تماماً، نحن كثيراً ما نهيئ أجواء خاصة بنا فنمضي أوقاتاً سعيدة".
ويتابع: "عادة كلمة معاق تترك في نفوس الناس أثراً سلبياً، ويعتقدون أن الشخص متخلف وليس معاق".
وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: "الناس بتفكر المعاق بتهته". وتقاطعه نعيمة باندفاع موجهة الحديث لزوجها: "عندما أتيت لزيارتنا، وقابلوك أهلي أحبوك من الوهلة الأولى، وقبلوا دون أدنى معارضة". فيرد: "أهلك انبهروا بي". و يقول لزوجته مداعباً: "أنا كنت قنوع ولم أطلب مواصفات صعبة". بينما تبتسم زوجته، وتنظر بامتعاض، فيستدرك قائلاً: "أحمد الله أنه رزقني بنعيمة، فهي أملي وسندي في الحياة، وشعرت منذ اللحظة الأولى بنقائها وتقواها".
وعندما سألته "السعادة" ماذا تشكل نعيمة في حياته، جاءت إجابته موجزة معبرة: "نعيمة راحتي وسعادتي الغامرة".
وفيما يتعلق بالتسوق تقول نعيمة: "لا نجد صعوبة في ذلك، فيومياً يمر عند بيتنا باعة متجولون يبيعون مختلف الأنواع فيخرج حسن، ويشتري لنا ما نريد، بل هو من ينتقيها، كما أنني كنت معتادة وأنا طالبة في الجامعة على تلبية متطلباتي، وشراء بعض الحاجيات وحدي، فهو ليس بالأمر الجديد عليَّ".
عماد غانم
أما عماد غانم، مصور فضائية الأقصى، فحكاية أخرى لا تحتاج إلى الكثير من التعليق، فالصورة التي رأى العالم أجمع بعضاً من تفاصيلها عبر فضائياته ولم يحرك ساكناً، أفقدته ساقيه لتحل مكانهما ساقان صناعيان.
وتحدثنا زوجته فدوى عن قصة زواجه فتقول: "تقدم عماد لخطبتي، ولم يكن الأمر صعب بالنسبة لي، بل على العكس، صليت صلاة الاستخارة وكنت في راحة تامة، لكن أهلي ترددوا في البداية، وأبلغت أهلي وأهله بالموافقة. فجاء عماد لزيارتنا، وأحبه أهلي منذ اللحظة الأولى، وتمت الخطبة، وكان زواجنا بعد ذلك.
فدوى، التي كانت تتخيل نفسها في فستان زفافها منذ أن كانت صغيرة، كما هي أحلام الفتيات، وتنتظر هذا اليوم الذي يجمعها مع زوجها، لم يتغير عليها شيء، بل زادت لهفتها بعد رؤيتها لعماد الذي أحبته بكامل عواطفها. تستذكر فدوى اليوم الذي تقدم لخطبتها ورأته، وعلت وجنتيها حمرة الخجل وهي تقول: "غمرتني سعادة لا يمكن وصفها، لكن الموقف كان صعباً، فلم أستطع النظر إليه".
وكما هو الحال مع عماد الذي خفض بصره بحياء قائلاً: "كانت لحظات جميلة اختلطت فيها مشاعر السعادة والخجل، ونوعٌ من التوتر، لكنها لا تنسى وتحفظ في الذاكرة".
زواج عماد وفدوى الذي حُدد في السابع من ديسمبر من العام الماضي سبقته مشيئة الله أن يسافر في ذات اليوم لاستكمال علاجه، فتم تأجيل زفافه، حتى عاد إلى الوطن، و بعد عودته، أقيم حفل زفافه الذي أتى إليه من يعرفه ومن لا يعرفه، مشاركينهما فرحتهما.
وتقول فدوى التي مر على زواجها أسابيع: "هي فترة من أجمل الأيام التي قضيتها في حياتي، لم يشعرني أنه مصاب، بل على العكس أحياناً كثيرة يأتي لي بالطعام ونأكل سوياً، و نخرج متى أردنا ذلك، ونذهب إلى أي مكان نريد".
وتتابع مشيرة بإصبعها إلى جدران المنزل: "حتى أنه طلى جدران المنزل، ويشاركني في كل شيء. أتمنى أن يديم الله علينا فرحتنا".
حسن السباح
حسن السباح نموذج آخر من تلك النماذج، كان ميلاده صباح يوم الجمعة الثامن من نيسان لعام 1983م وآذان الفجر يصدح بالنداء، عاش طفولته وترعرع في أزقة مخيم الشاطئ ودرس في مدارسها، إلى أن تخرج من الثانوية العامة، واستكمل دراسته الجامعية في الجامعة الإسلامية دبلوم سكرتارية وإدارة أعمال.
يحدثنا حسن عن إصابته فيقول: "كان موعدي مع الإصابة يوم الثاني من أكتوبر لعام 2004م بينما كنت أسير أنا وأخوين في أحد الشوارع وإذا بصاروخ من طائرة استطلاع يستهدفنا. سمعت صوت الصاروخ متجهٌ إلينا، حاولت الهروب, لكن لا مفر! سمعت صوت انفجار قوي، ووجدت نفسي ملقى على الأرض، وبالرغم من الإصابة الخطيرة، لم أغب عن الوعي. في البداية اعتقدت أنني قد "انبطحت" على الأرض، ولكنني عندما أسندت نفسي كانت الصدمة أن قدماي قد بترتا! شاهدت قدمي بعيدة عني والدم يملئ المكان، فأصابتني قشعريرة غريبة".
وبينما أنا ملقى على الأرض بدأ شريط حياتي يمر أمام ناظريّ، وشريط آمالي وما كنت رسمه لحياتي, وجملة من التساؤلات خاضت غمار عقلي، فبدأت أسأل نفسي هل ضاعت أحلامي؟ وكيف سوف يتلقى أهلي الخبر؟ وكيف سيتلقاه أخي السجين؟ وكيف سأكمل مشوار الجهادي.
ويكمل: "دخلت غرفة العمليات ولم أفق إلا وأنا في مستشفى الشفاء، وكنت أعلم بما جرى لي وأن قدماي قد بترتا".
كيف للمرء أن يتلقى خبراُ كهذا؟ سألته "السعادة" عن شعوره آنذاك، فقال: "والله نزل علي صبرٌ غريبٌ وطمأنينة رهيبة بقدر من الله، فتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". فقلت في نفسي إنني أصبت وحدث ما حدث، فالآن يجب أن أصبر حتى أحوز على الأجر".
كان للصبر الذي صبره حسن جوائز من الله أهداه إياها، أولها كما يقول: "تعافيت بسرعة كبيرة، ولم أمكث في المستشفى طويلاً، وبعد خروجي منها مباشرة قدَّر الله لي زوجة صالحة".
وتشاركنا زوجته فدوى الحديث عن قصة زواجهما فتقول بابتسامة هادئة: "كنت في ذلك الوقت في الصف الحادي عشر، حيث كانت المعارك الضارية في مخيم جباليا ( أيام الغضب)، وكنا نتابع الأخبار في ذلك الوقت، فكان خبر إصابة صديق إخوتي، وهو حسن السباح، فتألمنا لذلك خصوصاً بعد سماعنا نبأ بتر قدميه، فهو صديق عزيز لإخوتي، وفي نفس الوقت جارنا. كانت أمي كل يوم تذهب لزيارة أهله وأمه في البيت، وكانت تسمع كلاماً عجباً من الزائرات، من سوف ترضى به في هذه الحالة؟ فكانت أمي تخبرني بما يقوله الناس، وكنت أقول في نفسي لماذا لا ترضى به البنات؟ لماذا بترت أقدامه؟ أليس وهو يدافع عنا؟ ومن أجلنا؟ فهو أحق الناس بأن يتزوج من أفضل البنات. وبعد أسبوع جاء أهله وطلبوا خطبتي، فجاءني والدي يأخذ رأيي، فلم أتردد في الموافقة، فتزوجنا، وكانت أجمل أيام حياتي".
تزوج حسن من فدوى وكانت أسعد لحظات حياتهما كما تقول زوجته، وأنجبا طفلة صغيرة أسمياها سجود.
وتتابع فدوى: "سجود، تملأ علينا البيت ولا يطيب أي مجلس إلا بوجودها، فهي تعني لنا الكثير".
ويذكر حسن أكبر الصعوبات التي واجهته في حياته بعد الإصابة، وهي التدرب على المشي بالأطراف الصناعية، فيقول: "للوهلة الأولى ظننت أنني لن أستطيع المشي بها على الإطلاق، ولكن إصراري على أن تكون حياتي مستقلة، وأن لا أكون عالة على أي أحد، كان دافعاً لي للاستمرار على التدرب، وبدأت أسير مسافات كبيرة على هذه الأقدام. وقد اشتريت سيارة, وكنت مصمماً على أن أقودها بأقدامي وليس عن طريق اليدين، فتدربت على قيادتها بالقدمين حتى أتقنت القيادة والحمد لله أقود الآن السيارة بأقدامي الصناعية".
وتوظف حسن في الجامعة الإسلامية وأصبح يعمل فيها سكرتيراً. ويقول: "الحمد لله أخذ مني شئ وأعطاني الكثير".
بينما توجهت "السعادة" بسؤال فدوى عن حياتها مع حسن، وهل شعرت يوماً أنه يعاني من نقص ما، فقالت، وقد وجهت نظراتها الحانية إلى زوجها: "حسن بمثابة الزوج والصديق والأخ، وهو يعمل جاهداً لإسعادي، ولم أشعر في يوم من الأيام أنه يعاني من نقص ما، فهو يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً، وليس كما يعتقد الناس أنني أقوم له بأعماله، فقد أشترى سيارة وكثيراً ما يأخذني للتنزه على البحر وأماكن كثيرة، فوالله ما شعرت منه يوماً بتقصير".
وتتابع وهي تهدهد ابنتها سجود التي كانت تنتقل بين والديها: "الحمد لله، بعد زواجنا بثلاثة شهور حملت، ومن ثم جاءتنا طفلة أسميناها سجود، كما رغب شقيق زوجي الأسير أشرف المعتقل في سجون الاحتلال".
وبأجواء من الألفة سادت المكان، يتوجه حسن بنظراته إلى زوجته دون أن تفارق الابتسامة شفتيه ليجيب على تساؤلنا: من يبادر بالصلح إذا تخاصمتما فيقول: "حينما تزوجتها كانت صغيرة، فكانت تحدث بعض المواقف لعدم معرفتها، وصغر سنها". فتقاطعه زوجته: "أنا من يبادر بالصلح، فلا يهون علي أن يكون متضايقٌ مني، فأسرع لمصالحته والحديث معه". بينما يبتسم حسن، ويقول: "وأنا لا أحتمل "زعلها" وأرضيها كما تفعل هي".
تعليقات
إرسال تعليق