الحصَّالة أول خطوة على الطريق

الحصَّالة أول خطوة على الطريق
الغلاء قتل محاولات الادخار بالضربة القاضية
هل أصبحت مطالب الأبناء عبئاً كبيراً على الأسرة؟ وهل يمكنهم المساهمة للتخفيف من هذا العبء؟ كيف ينشأ الطفل على الادخار ويعرف أهمية الاعتدال في الإنفاق؟ وما الأخطاء التربوية التي تؤثر في نظرة الأبناء للمال؟ وكيف يوازن الأهل بين متطلبات الأبناء وغلاء الأسعار؟ وما الأهداف التربوية التي ينبغي أن تركز عليها الأسرة في تعامل أبنائها مع المال حتى نستطيع مواجهة الغلاء في ظل الظروف الاقتصادية المتردية عالمياً ومحلياً؟ وما الأساليب التربوية التي يمكن إتباعها لمواجهة هذه الأزمة؟ وكيف نربي أبناءنا على مفاهيم الاقتصاد؟
تحقيق: أنوار هنية
عبد الله بعلوشة (11 عاماً)، يمتلك 50 شيقلا حصيلة ادخار ثلاثة شهور متتابعة يريد أن يشتري بها بنطال للعيد واستكمال الباقي من والده لشراء القميص، يحدثنا قائلا: "مصروفي اليومي من والدي شيقل فأدخر نصفه، وأنفق نصفه.
ويضيف: "يجب أن ينشأ الفرد ولديه أهم صفات تعينه على الحياة وهي القناعة وتحمل المسئولية تجاه الآخرين، وقد أنشأنا والدينا على ذلك، فهي الأسلحة المقاومة للأنانية وحب الذات. ونحن الآن في ظرف لا يسمح للفرد التفكير بنفسه فقط بل يجب المساهمة بكل ما يمتلك".
ويتفق معه في الرأي محمد الكحلوت (17 عاماً) الذي يقول: "نحن في ظرف لا يعلم به إلا الله و يجب على جميع أفراد الأسرة التكاتف والتعاضد مع بعضهم البعض وكلٌ يساهم بما يستطيع، فنحن في البيت اتفقنا أنا وإخوتي الثلاثة منذ مدة طويلة على الادخار، واشترينا حصالة، ونتبع هذا النظام منذ سنة تقريبا. وفي المناسبات نأخذ من الحصالة ونشتري ما نريد ونلبي الأولويات، وأحيانا عندما يأتي آخر الشهر ويضيق الحال علينا نصرف من الحصالة ويعيدها لنا والدنا لتبقى ذخيرة لنا، ونحن سعيدون جدا بذلك".

وعلى النقيض من عبد الله ومحمد يقول عادل: "أنا لا أحب الادخار ولم أتعود عليه، والآن عندما كبرت والديّ يؤنبانني على ذلك، لكني لا أستطيع، فكلما ادخرت مبلغا ولو كان قليلا أنفقه، لذلك لم أُكرر المحاولة".
بينما دعاء (12 عاما) التي لا يعمل والدها تقول: "كيف أدخر وأنا لا آخذ حتى المصروف؟ فحينما يُخيّرنا والدنا بين إعطائنا المصروف أو شراء خضرة للمنزل نقول له، لا نريد مصروف ولكن لبي احتياجات المنزل. فكيف لي أن أدخر؟".
ويقول أبو نائل (47 عاما): "عودت أطفالي منذ أن كانوا صغارا على الادخار، ليتعودوا على تحمل المسئولية، رغم أنني ألبي لهم احتياجاتهم، لكن قد تمر على الإنسان ظروف معينة، فدوام الحال من المحال، وهم تقبلوا ذلك، على الرغم من أنهم في البداية رفضوا، لكني شجعتهم بوضع مبلغ من المال في الحصالة وتشربوا الفكرة بعد ذلك حتى أصبحت جزءا من شخصيتهم لا يستطيعون الاستغناء عنها".
بينما تحدثنا أم سراج عن تجربتها مع أبنائها الذين يشترون معظم احتياجاتهم من ادخارهم، وليس ذلك فحسب بل وعندما تحتاج لشراء حاجيات للبيت تأخذ مما ادخروه بطيب نفس، لكن يوم نزول الرواتب يعوضهم والدهم عما أنفقوه تشجيعا لهم.
ياسمين عبد اللطيف مستوى ثاني، كلية الهندسة التي يصل ادخارها شهريا إلى 100 شيقل، تدخر لشراء ما تحتاجه حتى لا تثقل على كاهل أهلها في احتياجاتها الخاصة، وكان أول ما اشترته من ادخارها جوال، وهي تشتري ما تحتاج من ملابس، وتُقرض من يحتاج من إخوتها من مدخراتها، على أن يعيده إليها بعد ذلك.
وتخالفها التصرف علا عبد اللطيف، مستوى خامس تخصص هندسة، التي لا تدخر من مصروفها اليومي لأنه لا يكفي إلا لإنفاقها على الجامعة والكتب الدراسية، لكنها تدخر من المال الذي يقدم لها كهدية في المناسبات، وتشتري ما تحتاجه، كما أنها تعطي من يحتاج من إخوانها.
أساليب علاجية
يقول د. محمد مقداد: "يعرف الطفل النقود في الوقت الذي يبدأ فيه الكلام فنراه يطلق على كل فئات النقود لفظة واحدة "نصف شيقل أو شيقل" ويحب تجميعها، وعندما يعرف أنه يمكنه الحصول على شيء يحبه يبدأ في إبداء الرغبة في إجراء عملية التبادل هذه بمتعة، خصوصاً إذا قام بنفسه ومباشرة مع البائع بعملية التبادل، ويجب ألا نحرمه من هذه المتعة؛ لأن فيها فائدة أخرى، فهي تدربه على الأخذ والعطاء، وينمو إدراكه ليصل به إلى أرقى مراتب العطاء، وهو العطاء بلا مقابل، ويعطى الطفل مصروفاً خاصاً عندما يعي عملية التبادل هذه، وتقريبا هذا يحدث مع دخوله مرحلة الروضة من 4-6 سنوات، على أن يكون مصروفاً محدداً لشراء قطعة حلوى أو علبة عصير، أو كليهما، وإن كان من الأفضل أن تكون عملية تدريبية على الشراء تحت إشراف أحد الكبار من أفراد الأسرة وخارج نطاق المدرسة".
وحول كيفة تنشأة الطفل على الادخار وأهمية الاعتدال في الإنفاق يقول مقداد: "إذا كان مصروف الطفل يحتمل تجنيب جزء منه في حصالة فيستحب إقناعه بذلك حتى إذا احتاج الطفل شراء لعبة أو الاشتراك في لعبة، أو زيارة الملاهي، وكلها أشياء يحبها، يمكنه الاستعانة بما وفره في الحصالة، وعندئذ يدرك معنى الادخار".
ويرى مقداد أن مجرد عدم حرص الأبناء على إطفاء الأنوار باستمرار في الأماكن غير المستخدمة، وعدم ترشيد استهلاك الطاقة، أو الغاز، أو المياه، وكذلك السفه في استهلاك الأدوات المدرسية، كل ذلك يعني نفقات إضافية، "فما بالنا لو اقترن هذا بالمغالاة في متطلبات الأبناء والجري وراء الإعلانات المستفزة التي يبثها الإعلام؟".
ثمار طيبة
وحتى تكون التربية الاقتصادية سليمة وتؤتي ثمارها الطيبة على الفرد والمجتمع، فإنها لا بد أن تؤسس على تربية سليمة.
ويوضح ماهر بنات أستاذ التربية بكلية العلوم التطبيقية لـ "السعادة" أهمية مرحلة الطفولة ويقول: "تعتبر أهم مرحلة في حياة الإنسان؛ ففيها بداية التشكيل والتكوين وعليها سيُكون الإنسان مستقبله، لذا تقع المسئولية الكبرى على الأسرة باعتبارها المؤسسة الأولى المسئولة عن بناء وتشكيل شخصية الطفل.
ولتعويد الطفل على الادخار لابد من إتباع بعض الأساليب التي تساهم في تعزيز سلوك الادخار لديهم يبينها بنات قائلاً: "يجب تعويد الطفل أن يكون منتجاً وليس فقط استهلاكياً، وأن يُنَشّأ الولد الصغير على الكسب الحلال الطيب من عمل يده خلال فترات الإجازات، وهذا يتطلب من والديه وإخوته الكبار تدريبه على بعض الأعمال التي تناسب سنه، ويتعلم مهنة سواء مهنة والده أو أي مهنة أخرى، كما يجب تفهيمه بأن العمل عبادة وشرف وقيمة، واليد العليا خير من اليد السفلى، فإن تعويد الطفل على العمل والكسب منذ الصغر يعالج مشكلة البطالة عند الكبر".
كذلك يقول بنات: "لابد من تدريب الطفل على استخدام محفظة للنقود ووضعها في مكان آخر للحفاظ عليها، وغرس بعض المفاهيم الإيمانية ذات الطابع الاقتصادي في معتقدات أبنائنا منذ الصغر، على سبيل المثال: أن المال الذي معنا ملك لله، لأنه سبحانه وتعالى هو الذي رزقنا إياه، لذلك يجب أن نحب الله ونعبد صاحب هذا المال، وأن هناك ملائكة تراقب تصرفاتنا ومنها الاقتصادية والمالية، ولذلك يجب أن نتجنب أن تسجل الملائكة في سجلاتنا شيئاً لا يرضاه الله".
ويضيف بنات: "يجب تبيان أن هناك آخرة سوف نقف فيها أمام الله سبحانه وتعالى ليحاسبنا على هذا المال من أين اكتسب وفيم أنفق؟ ويجب تنشئتهم على الاعتدال في الإنفاق، وترشيد الاستهلاك وتجنب الإسراف والتقتير، ومن ناحية أخرى عند تقدير المصروفات الشخصية للأولاد يجب عدم المغالاة فيها فوق الاعتدال حتى لا نشجعهم على الإسراف الذي يقود مفاسد الأخلاق ثم الانحراف".
و ينصح بنات بتربية الأبناء على أن الله سبحانه وتعالى هو الباسط والمقدر للأرزاق، وأحياناً يكون سعة في الرزق، وأحياناً يكون فيه ضيق، و"تأسيساً على ذلك يجب على الأولاد عدم الإسراف وقت السعة ويجب عليهم الادخار لوقت الحاجة، كما يجب تعويدهم على ترتيب النفقات وفق الأولويات الإسلامية وهى الضروريات فالحاجيات فالتحسينات، فعندما يطلب الولد شيئا في مجال الكماليات وهو في نفس الوقت محتاج إلى شيء آخر في مجال الضروريات نعطى الأولوية للضروريات ثم نلي ذلك الحاجيات فالكماليات ونشرح له المبرر لذلك.
وينوه بنات إلى ضرورة استثمار فرصة شهر رمضان في تعليم الصغار قيمة الادخار؟ فالطفل في هذا الشهر لا يحتاج مصروفه اليومي إذا كان صائمًا، وهذه فرصة لتعليمه الادخار بتوفير حصالة، وتشجيعه على أن يضع فيها مصروفه أو بعضه، ووعده الطفل بأنه في حال تجمع لديه مبلغ من المال بإمكانه أن يشترى به ما يحتاج إليه من لعب وملابس.
ويؤكد بنات على ضرورة الالتزام بالصدق في وعود الطفل، لأنه كلما رأى صدق الكبار في وعودهم، بإعطائه حصيلة ما ادخر، اقتنع بالفكرة واستمر في تنفيذها.
وحول كيفية تنشئة الطفل على الإحساس بالمسئولية من خلال عادة الادخار، يقول بنات: "هناك عدة أمور ينبغي على الأسرة أن تأخذها بعين الاعتبار في تنشئة أطفالها على تحمل المسئولية منها الشورى في أمور البيت ومنها المالية، وإشعار الأطفال بحقيقة الوضع المالي للأسرة".
ويبين أن بعض الآباء يجعل ميزانية الأسرة أو دخله اليومي أو الشهري من الأسرار التي لا ينبغي على الأبناء الإطلاع عليها، وهذا ليس له ما يبرره، "فالأصل أن نشعر الأبناء بحقيقة الوضع المالي للأسرة حتى يشعروا بالمسئولية".
ويضيف: "كذلك ينبغي تخصيص مصروفاً يومياً لأبنائنا، مع الإشراف على طريقة صرفهم للنقود، وتعويدهم على عادة الادخار، لأن الهدف في إعطاء المصروف هو أن يتعلم الطفل كيف يصنع قراراته، وأن يتحمل نتيجتها. فلا تتردد في منح طفلك مصروفه في مرحلة مبكرة من العمر؛ لأنك بذلك تؤهله إلى استقبال مشكلات الحياة وتعوده الاستقلال والاعتماد على الذات".
كما ينبغي حسب أقوال بنات "تدريب الطفل على حسن استخدام النقود، وتحمل مسؤوليات التصرف فيها، مع ضرورة الانتباه إلى عدم تعويض الطفل ما أضاعه من مال؛ لأن ذلك لا يعلمه تحمل المسؤولية ولا يشعره بقيمة المال".
ولتعويد الأطفال على الادخار منذ صغرهم آثاره المستقبلية على شخصية الطفل يقول بنات: "تعويد الأطفال على الادخار منذ صغرهم يَقُوُد إلى إعداد أجيال قادرة على إدارة اقتصاد البيت والشركة والمؤسسة والدولة على أسس صحيحة تقود إلى تحقيق الخير في الدنيا ولآخرة، كما أن الطفل إذا تعود الادخار والتخطيط له سوف تتكون لديه قاعدة في الغد عندما يترقى لوظيفة ما -تكون نسبة الادخار التي يمتلكها كبيرة- وربما يدخل مشروعا خاصا به يعود عليه وعلى أسرته بالنفع وبالتالي فإنه سوف يعيش مرتاح البال وفي حلقة خالية من الديون، ولكن إن تمرد هذا الشاب على نفسه وأراد امتلاك كل شيء وهو لا يستطيع ولجأ إلى الديون والقروض بالتالي سوف يلاحق هذا المستوى ولن يستطيع النزول عنه وسوف تزيد مشاكله ولن يقدر على الموازنة بين احتياجاته وراتبه.
ويوضح بنات أن عادة الادخار عند الأولاد منذ الصغر تنمي لديهم الشعور بالمسئولية وحسن اتخاذ القرار، ويُعتمَد عليه فيما بعد لإدارة اقتصاد بيته وبلده على أسس صحيحة، وسيحدث توازن في ميزانية بيته مستقبلا، فتجده يدخر ولا يقترض، وهنا نجد الحياة فيها سكينة ومودة ورحمة، وتعويد الأبناء على الادخار وحسن التصرف والتدبير يحميهم من الاعتماد على الغير في المستقبل ويدربهم على اتخاذ القرارات، مصداقاً لقول أبي العلاء المعري "وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه".

تعليقات